- إنضم
- 10 سبتمبر 2013
- المشاركات
- 1,841
- التفاعل
- 8,849
- النقاط
- 122
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قِصَّة من القصص القرآنية، ذات مدلولاتٍ عجيبة، ووقائعَ فريدة، مليئة بالعِظات والعِبر.
قصَّة تتعلَّق بشخصية كريمة، لنبيٍّ من الأنبياء، وما واجَهَه في حياته من حوادثَ ووقائع، وابتلاءات ومِحَن، جاءتْ تفصيلاتها في سورة سُمِّيت باسمه، إنَّها قصَّة الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف - عليه السلام.
وقد وردت القصة في القرآن الكريم في سورة كاملة، وذُكر اسم يوسف عليه السلام في القرآن الكريم ستاً وعشرين مرة، منها أربعاً وعشرين في سورة يوسف.
وكان نزول هذه السورة على النبي صلى الله عليه وسلم قبل هجرته من مكة إلى المدينة.
جاء في الآية الثالثة من السورة: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ﴾ ، وخُتِمتْ في آخِر آية منها بقوله - تعالى -: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ .
تفاصيل قصة سيدنا يوسف عليه السلام..
سيدنا يعقوب رزقه الله عشرة بنين ثم تزوج سيدنا يعقوب من راحيل ابنة خاله فولد يوسف ثم شقيقه بنامين .
و هكذا اصبح لسيدنا يعقوب اثنا عشر ولداً . .
عاش آل يعقوب في أرض فلسطين . . تلك الأرض الطيبة المليئة بالمروج الخضراء و المراعي و أشجار الزيتون .سيدنا يوسف كان الولد المحبب لدي أبوه، وكان يحبه حباً جماً،
وكان يتوسّم فيه النبوّة ربّما يختاره الله نبياً من بعده . .
كان يوسف جميلاً ليس في وجهه فقط بل في روحه و اخلاقه و صفاته لهذا كان محبوباً من الجميع . .
كان يوسف يحظى بحب كبير من أبيه يعقوب، وقد لاحظ إخوته مكانة يوسف عند أبيه، فجعلت الغيرة تعتصر قلوبهم، والحسد يكشر عن أنيابه!
قال الله تعالى: ﴿ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾
في ليلة من الأيام رأي سيدنا يوسف في منامه أحد عشر كوكباً والشمس والقمر له ساجدين، فإستيقظ سيدنا يوسف عليه السلام وبدأ يقص رؤياه علي والده، فنصحة والده ألا يقص هذة الرؤيا علي إخواته حتي لا تزداد غيرتهم من سيدنا يوسف عليه السلام خوفاً عليه
فأوَّلها يعقوب - عليه السلام - بأنَّ الشمس: أمُّه، والقمر: أبوه، والكواكب: إخوته، وأنَّه ستنتقل به الأحوالُ إلى أن يصيرَ إلى حال يخضعون له، ويسجدون له إكرامًا، فكانتْ هذه الرؤيا مقدِّمة لما وصل إليه يوسف - عليه السلام - مِنَ الارتفاع في الدنيا والآخرة، فقال يعقوب - عليه السلام - عندئذٍ: ﴿ قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ ، فيعقوب - عليه السلام - خَشِي أن يَحسُدَهُ إخوتُهُ؛ لأنَّ الشيطان عدوٌّ لا يفتر
حين نتأمَّلْ هذا الخطاب الأبويَّ، والأسلوب التربويَّ الرائع، الذي هو أقربُ إلى الإقناع، ومن ثَمَّ التطبيق والانتفاع، فيعقوب - عليه السلام - حين نهاه عَلَّل له ذلك، وبيَّن السبب: ﴿ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ﴾، ثُمَّ علَّل أيضًا لِمَ يكيدون له: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾، ثم قال: ﴿ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾
لكن الشيطان قد وسوس لإخوة يوسف (إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ)
ودبروا ذلك ﴿ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ * قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ ﴾
فذهبوا إلي أبوهم يطلبون منه أن يترك لهم يوسف يلعب معهم، فقلق والدهم على يوسف وقال لهم أنه يخاف على يوسف في أن ينشغلوا بالصيد فيأكله الذئب هنا تجمعوا قائلين كيف يأكله الذئب ونحن بهذا العدد فنحن سوف نحميه، هنا وافق الأب وتركه يذهب معهم ..وأرسل يوسفَ معهم إلى البرية.
وعندما خرجوا به نفَّذوا مخططَهم، فأنزلوه في بِئر وتركوه، ورجعوا في اللَّيْل يُظهرون الحزنَ، ويرفعون أصواتهم بالبُكاء؛ ليكونَ إتيانهم متأخرًا عن عادتهم وبكاؤُهم دليلاً لهم، وقرينةً على صِدقهم، ﴿ وَجَاؤُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ * وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾
قد نسوا في انفعالهم أن يمزقوا قميص يوسف.. جاءوا بالقميص كما هو سليما، ولكن ملطخا بالدم.. وانتهى كلامهم بدليل قويعلى كذبهم حين قالوا: (وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ)
أي وما أنت بمطمئن لما نقوله، ولو كان هو الصدق، لأنك تشك فينا ولا تطمئن لما نقوله.
أدرك يعقوب من دلائل الحال ومن نداء قلبه ومن الأكذوبة الواضحة، أن يوسف لم يأكله الذئب، وأنهم دبروا له مكيدة ما، وأنهم يلفقون له قصة لم تقع، فواجههم بأن نفوسهم قد حسنت لهم أمرا منكرا وذللته ويسرت لهم ارتكابه؛ وأنه سيصبر متحملا متجملا لا يجزع ولا يفزع ولا يشكو، مستعينا بالله على ما يلفقونه من حيل وأكاذيب: ( قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ )...
أثناء وجود يوسف بالبئر، مرت عليه قافلة.. قافلة في طريقها إلى مصر.. قافلة كبيرة.. سارت طويلا حتى سميت سيارة.. توقفوا للتزود بالماء.. وأرسلوا أحدهم للبئر فأدلى الدلو فيه.. تعلق يوسف به.. ظن من دلاه أنه امتلأ بالماء فسحبه.. ففرح بما رأى.. رأى غلاما متعلقا بالدلو.. فسرى على يوسف حكم الأشياء المفقودة التي يلتقطها أحد.. يصير عبدا لمن التقطه.. هكذا كان قانون ذلك الزمان البعيد. فرح به من وجده في البداية، ثم زهد فيه حين فكر في همه ومسئوليته، وزهد فيه لأنه وجده صبيا صغيرا.. وعزم على التخلص منه لدى وصوله إلى مصر.. ولم يكد يصل إلى مصر حتى باعه في سوق الرقيق بثمن زهيد،دراهم معدودة.
﴿ وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنْ الزَّاهِدِينَ ﴾...
ثم يكشف الله تعالى مضمون القصة البعيد في بدايتها (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ). لقد انطبقت جدران العبودية على يوسف. ألقي في البئر، أهين، حرم من أبيه، التقط من البئر، صار عبدا يباع في الأسواق، اشتراه رجل من مصر، صار مملوكا لهذا الرجل.. انطبقت المأساة، وصار يوسف بلا حول ولا قوة.. هكذا يظن أي إنسان.. غير أن الحقيقة شيء يختلف عن الظن تماما.
وكان الذي اشتراه وزيرَ الملِك، فأرسله إلى بيته، وأوْصَى زوجته بالإحسان إليه، فصار ليوسفَ بعدَ ذلك مقامٌ كريم في منزل وزيرِ الملِك، وأُلْهِم - عليه السلام - تفسيرَ الرُّؤى؛ ﴿ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ﴾ ، لا يعلمون حِكمتَه في خلقه، وتلطُّفَه لِمَا يريده.
﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ ؛ أي: وَلَمَّا بَلَغَ يوسف أَشُدَّهُ؛ أي: كمالَ قوَّته المعنوية والحِسيَّة، وصلح لأنْ يتحمَّلَ الأحمال الثقيلة، مِن النبوَّة والرِّسالة - آتيناه حُكْمًا وَعِلْمًا؛ أي: جعلناه نبيًّا رسولاً، وعالِمًا ربانيًّا.
﴿ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾؛ أي: المحسنين في عبادة الخالِق، والمحسنين إلى عباد الله، يُؤتيهم مِن جُملة الجزاء على إحسانهم علمًا نافعًا، وكان الإحسانُ ونفْع الناس من سجايا يوسف - عليه السلام - كما وصَفَه أصحابُ الرؤيا في السِّجن: ﴿ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾
من اشد ما جرَى ليوسف - عليه السلام - إنَّه تعرَّض لفتنة عظيمة، وهو في بيْت وزير الملِك، وكان ذلك بسبب جَماله الباهِر.
وذلك أنَّ امرأة العزيز رأتْ جمالَ يوسف، فخفق قلبُها، واضطرمتْ مشاعرها، إلى أنْ أظهرتْ شعورَها نحوَ يوسف وحبَّها له، فانتهزتْ فرصةَ خلوتها به في بيتها يومًا، فغلَّقتِ الأبواب، وأخذتْ تُغريه بنفسها، فعرضتْ عليه محاسنَها ومفاتنَها، وقالت له: أقْبِل عليَّ فقد هيأتُ لك نفسي، ووالله، إنَّها لفتنةٌ لا يقوى على تحمُّلها وتجاوزها إلا مَن وفَّقه الله - عزَّ وجلَّ - فهو غريب، والغريب لا يحتشِم غالبًا حشمَه إذا كان في وطنه وبيْن معارفه، وهو أيضًا أسير تحتَ يدها، وفيها مِن الجمال ما يدعوه إلى وقاعها، وهو شابٌّ عزبُ، وقد توعدتْه - إن لم يفعل ما تأمره به - بالسجن، أو العذاب الأليم.
ومن السبعة الذين يُظلُّهم الله في ظلِّ عرْشه يومَ لا ظلَّ إلا ظلُّه: ((رجلٌ دعتْه امرأة ذاتُ منصِب وجمال، فقال: إني أخاف الله))، فيوسف - عليه السلام - نفَرَ منها نفرةَ المستنكِر لهذا الأمر، فصبر عن معصية الله، مع وجود الدواعي القويَّة.
والذي حَصَل منه مجرَّد همٍّ فيها، تَرَكه لله، وقدَّم مرادَ الله على مراد النَّفْس الأمَّارة بالسُّوء، وإنما الهمُّ الذي يُلام عليه العبد، الهمُّ الذي يساكنه، ويصير عزْمًا، وربَّما اقترن به الفِعْل، وقد رأى يوسفُ مِن برهان ربه ما أوجب له البُعدَ والانكفاف عن هذه المعصية الكبيرة، وذلك بما معه مِنَ العلم والإيمان..
﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾
فهو من المخلَصين؛ لأنَّه من الأنبياء، ومن المخلِصِين لأنَّه يُريد العفافَ، وترْك الحرام، والإخلاصُ سببٌ للخلاص، لقد أسْرع يوسف - عليه السلام - إلى الباب يُريد الإفلاتَ منها، وأسرعتْ وراءَه؛ لتحولَ دون خروجه، وجذبتْ قميصَه من الخَلْف؛ لتمنعَه من الخروج، فتمزَّق، لكنَّه تمكَّن من الخروج، وفي هذه الحال وجَدَا عند الباب زوجَهَا، فبادرتْه باتهام يوسف بمحاولة اغتصابها، وحرضتْه على سجْنِه، لكن يوسف - عليه السلام - دَفَع التهمةَ عن نفسه بأنَّها هي التي حاولتْ أن تخون زوجَهَا، وأنَّه امتنع عن الاستجابة لها، وبينما هما يتبادلانِ الاتهامَ حضَرَ الجدالَ قريبٌ لها، فحكم بينهما: إن كان قميصُه شُقَّ من الأمام فقد صَدَقَتْ؛ لأنه يكون لما دعاها وأبتْ عليه، دفعتْه في صدره، فقدَّتْ قميصه، وإن كان قميصه شُقَّ من الخَلْف، فقد كذَبَتْ في قولها، وهو من الصادقين؛ لأنَّ هذا يعني أنَّه كان يحاول الفرار، فأمسكتْ به من ورائِه؛ لتردَّه إليها.
فلمَّا رأى الزَّوجُ أنَّ قميص يوسف شُقَّ من الخلْف، عَلِم صِدق يوسف - عليه السلام - وتبيَّن له كيْدُ زوجته، لكنَّه رغب في ستْر الفضيحة، فقال ليوسف: تناسَ ما جَرَى لك واكتمْه، وقال لامرأته: استغفري الله لذنبك وتُوبي، إنَّك كنتِ من الآثمين.
﴿ وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ﴾...
انتشر خبرُ الحادثة التي وقعتْ في بيت الملِك إلى جماعةٍ مِن نساء المدينة، وتناقلْنَه في مجتمعاتهنَّ، أنَّ امرأةَ العزيز أغرَتْ خادمَها، وراودتْه عن نفسِه؛ ليطيعَها فيما تريده منه، وقد خالَطَ حبُّه شغافَ قلْبها، وصل هذا إلى سمْع امرأةِ العزيز، فقرَّرت أن تُريهنَّ يوسفَ - عليه السلام - ليلتمسْنَ لها العذر، فاستضافتهنَّ يومًا، وبعد أن استقرَّ المقام بالمدعوات أمرتْ بالطعام، وأعطتْ كلَّ واحدة سِكِّينًا؛ لتقطعَ بها، وفي هذه الأثناء أمَرتْ يوسفَ أن يخرج إليهنَّ، فانبهرْنَ بجماله الرائع، فجرحن أيديهنَّ من فرط الدَّهْشة والذهول.
ولِمَّا رأتِ امرأة العزيز أنَّ النساء شاركْنَها في الإعجاب به، حينئذٍ باحَتْ لهنَّ بمكنون فؤادها قائلةً: هذا هو الفتى الذي تَلُمْنَني في حبِّه، هذا الذي حاولتُ إغراءَه فامتنع، وأُقسِم إن لم يفعلْ ما آمرُه، ليُعاقبنَّ بالسجن، وليكون من الأذلاَّء.
لكن يوسف - عليه السلام - لم يَلِنْ، ولجأ إلى ربِّه مناجيًا، بأنَّه يُفضِّل السجن على معصيته، ثم دعا ربَّه أنْ يصرفَ عنه شرَّ مكرهنَّ، فاستجاب الله دعاءَه، فصرف عنه المعصية، إنَّه - سبحانه - السميع لدعوات الملتجئين.
قال - تعالى -: ﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ ﴾ ..
واندفع النسوة كلهم إليه يراودنه عن نفسه.. كل منهن أرادته لنفسها.. ويدلنا على ذلك أمران. الدليل الأول هو قول يوسف عليه السلام (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) فلم يقل (ما تدعوني إليه).. والأمر الآخر هو سؤال الملك لهم فيما بعد (قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ).
أمام هذه الدعوات استنجد يوسف بربه ليصرف عنه محاولاتهن لإيقاعه في حبائلهن، خيفة أن يضعف في لحظة أمام الإغراء الدائم، فيقع فيما يخشاه على نفسه. دعى يوسف الله دعاء الإنسان العارف ببشريته، الذي لا يغتر بعصمته؛ فيريد مزيدا من عناية الله وحياطته، ويعاونه على ما يعترضه من فتة وكيد وإغراء. (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ) واستجاب له الله.. وصرف عنه كيد النسوة..
ربما كان دخوله للسجن بسبب انتشار قصته مع امرأة العزيز ونساء طبقتها، فلم يجد أصحاب هذه البيوت طريقة لإسكات هذه الألسنة سوى سجن هذا الفتى الذي دلت كل الآيات على برائته، لتنسى القصة. قال تعالى: (ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ )
كان السجن بالنسبة إليه مكانا هادئا يخلو فيه ويفكر في ربه.
وللحديث بقية...
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قِصَّة من القصص القرآنية، ذات مدلولاتٍ عجيبة، ووقائعَ فريدة، مليئة بالعِظات والعِبر.
قصَّة تتعلَّق بشخصية كريمة، لنبيٍّ من الأنبياء، وما واجَهَه في حياته من حوادثَ ووقائع، وابتلاءات ومِحَن، جاءتْ تفصيلاتها في سورة سُمِّيت باسمه، إنَّها قصَّة الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف - عليه السلام.
وقد وردت القصة في القرآن الكريم في سورة كاملة، وذُكر اسم يوسف عليه السلام في القرآن الكريم ستاً وعشرين مرة، منها أربعاً وعشرين في سورة يوسف.
وكان نزول هذه السورة على النبي صلى الله عليه وسلم قبل هجرته من مكة إلى المدينة.
جاء في الآية الثالثة من السورة: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ﴾ ، وخُتِمتْ في آخِر آية منها بقوله - تعالى -: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ .
تفاصيل قصة سيدنا يوسف عليه السلام..
سيدنا يعقوب رزقه الله عشرة بنين ثم تزوج سيدنا يعقوب من راحيل ابنة خاله فولد يوسف ثم شقيقه بنامين .
و هكذا اصبح لسيدنا يعقوب اثنا عشر ولداً . .
عاش آل يعقوب في أرض فلسطين . . تلك الأرض الطيبة المليئة بالمروج الخضراء و المراعي و أشجار الزيتون .سيدنا يوسف كان الولد المحبب لدي أبوه، وكان يحبه حباً جماً،
وكان يتوسّم فيه النبوّة ربّما يختاره الله نبياً من بعده . .
كان يوسف جميلاً ليس في وجهه فقط بل في روحه و اخلاقه و صفاته لهذا كان محبوباً من الجميع . .
كان يوسف يحظى بحب كبير من أبيه يعقوب، وقد لاحظ إخوته مكانة يوسف عند أبيه، فجعلت الغيرة تعتصر قلوبهم، والحسد يكشر عن أنيابه!
قال الله تعالى: ﴿ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾
في ليلة من الأيام رأي سيدنا يوسف في منامه أحد عشر كوكباً والشمس والقمر له ساجدين، فإستيقظ سيدنا يوسف عليه السلام وبدأ يقص رؤياه علي والده، فنصحة والده ألا يقص هذة الرؤيا علي إخواته حتي لا تزداد غيرتهم من سيدنا يوسف عليه السلام خوفاً عليه
فأوَّلها يعقوب - عليه السلام - بأنَّ الشمس: أمُّه، والقمر: أبوه، والكواكب: إخوته، وأنَّه ستنتقل به الأحوالُ إلى أن يصيرَ إلى حال يخضعون له، ويسجدون له إكرامًا، فكانتْ هذه الرؤيا مقدِّمة لما وصل إليه يوسف - عليه السلام - مِنَ الارتفاع في الدنيا والآخرة، فقال يعقوب - عليه السلام - عندئذٍ: ﴿ قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ ، فيعقوب - عليه السلام - خَشِي أن يَحسُدَهُ إخوتُهُ؛ لأنَّ الشيطان عدوٌّ لا يفتر
حين نتأمَّلْ هذا الخطاب الأبويَّ، والأسلوب التربويَّ الرائع، الذي هو أقربُ إلى الإقناع، ومن ثَمَّ التطبيق والانتفاع، فيعقوب - عليه السلام - حين نهاه عَلَّل له ذلك، وبيَّن السبب: ﴿ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ﴾، ثُمَّ علَّل أيضًا لِمَ يكيدون له: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾، ثم قال: ﴿ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾
لكن الشيطان قد وسوس لإخوة يوسف (إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ)
ودبروا ذلك ﴿ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ * قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ ﴾
فذهبوا إلي أبوهم يطلبون منه أن يترك لهم يوسف يلعب معهم، فقلق والدهم على يوسف وقال لهم أنه يخاف على يوسف في أن ينشغلوا بالصيد فيأكله الذئب هنا تجمعوا قائلين كيف يأكله الذئب ونحن بهذا العدد فنحن سوف نحميه، هنا وافق الأب وتركه يذهب معهم ..وأرسل يوسفَ معهم إلى البرية.
وعندما خرجوا به نفَّذوا مخططَهم، فأنزلوه في بِئر وتركوه، ورجعوا في اللَّيْل يُظهرون الحزنَ، ويرفعون أصواتهم بالبُكاء؛ ليكونَ إتيانهم متأخرًا عن عادتهم وبكاؤُهم دليلاً لهم، وقرينةً على صِدقهم، ﴿ وَجَاؤُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ * وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾
قد نسوا في انفعالهم أن يمزقوا قميص يوسف.. جاءوا بالقميص كما هو سليما، ولكن ملطخا بالدم.. وانتهى كلامهم بدليل قويعلى كذبهم حين قالوا: (وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ)
أي وما أنت بمطمئن لما نقوله، ولو كان هو الصدق، لأنك تشك فينا ولا تطمئن لما نقوله.
أدرك يعقوب من دلائل الحال ومن نداء قلبه ومن الأكذوبة الواضحة، أن يوسف لم يأكله الذئب، وأنهم دبروا له مكيدة ما، وأنهم يلفقون له قصة لم تقع، فواجههم بأن نفوسهم قد حسنت لهم أمرا منكرا وذللته ويسرت لهم ارتكابه؛ وأنه سيصبر متحملا متجملا لا يجزع ولا يفزع ولا يشكو، مستعينا بالله على ما يلفقونه من حيل وأكاذيب: ( قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ )...
أثناء وجود يوسف بالبئر، مرت عليه قافلة.. قافلة في طريقها إلى مصر.. قافلة كبيرة.. سارت طويلا حتى سميت سيارة.. توقفوا للتزود بالماء.. وأرسلوا أحدهم للبئر فأدلى الدلو فيه.. تعلق يوسف به.. ظن من دلاه أنه امتلأ بالماء فسحبه.. ففرح بما رأى.. رأى غلاما متعلقا بالدلو.. فسرى على يوسف حكم الأشياء المفقودة التي يلتقطها أحد.. يصير عبدا لمن التقطه.. هكذا كان قانون ذلك الزمان البعيد. فرح به من وجده في البداية، ثم زهد فيه حين فكر في همه ومسئوليته، وزهد فيه لأنه وجده صبيا صغيرا.. وعزم على التخلص منه لدى وصوله إلى مصر.. ولم يكد يصل إلى مصر حتى باعه في سوق الرقيق بثمن زهيد،دراهم معدودة.
﴿ وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنْ الزَّاهِدِينَ ﴾...
ثم يكشف الله تعالى مضمون القصة البعيد في بدايتها (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ). لقد انطبقت جدران العبودية على يوسف. ألقي في البئر، أهين، حرم من أبيه، التقط من البئر، صار عبدا يباع في الأسواق، اشتراه رجل من مصر، صار مملوكا لهذا الرجل.. انطبقت المأساة، وصار يوسف بلا حول ولا قوة.. هكذا يظن أي إنسان.. غير أن الحقيقة شيء يختلف عن الظن تماما.
وكان الذي اشتراه وزيرَ الملِك، فأرسله إلى بيته، وأوْصَى زوجته بالإحسان إليه، فصار ليوسفَ بعدَ ذلك مقامٌ كريم في منزل وزيرِ الملِك، وأُلْهِم - عليه السلام - تفسيرَ الرُّؤى؛ ﴿ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ﴾ ، لا يعلمون حِكمتَه في خلقه، وتلطُّفَه لِمَا يريده.
﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ ؛ أي: وَلَمَّا بَلَغَ يوسف أَشُدَّهُ؛ أي: كمالَ قوَّته المعنوية والحِسيَّة، وصلح لأنْ يتحمَّلَ الأحمال الثقيلة، مِن النبوَّة والرِّسالة - آتيناه حُكْمًا وَعِلْمًا؛ أي: جعلناه نبيًّا رسولاً، وعالِمًا ربانيًّا.
﴿ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾؛ أي: المحسنين في عبادة الخالِق، والمحسنين إلى عباد الله، يُؤتيهم مِن جُملة الجزاء على إحسانهم علمًا نافعًا، وكان الإحسانُ ونفْع الناس من سجايا يوسف - عليه السلام - كما وصَفَه أصحابُ الرؤيا في السِّجن: ﴿ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾
من اشد ما جرَى ليوسف - عليه السلام - إنَّه تعرَّض لفتنة عظيمة، وهو في بيْت وزير الملِك، وكان ذلك بسبب جَماله الباهِر.
وذلك أنَّ امرأة العزيز رأتْ جمالَ يوسف، فخفق قلبُها، واضطرمتْ مشاعرها، إلى أنْ أظهرتْ شعورَها نحوَ يوسف وحبَّها له، فانتهزتْ فرصةَ خلوتها به في بيتها يومًا، فغلَّقتِ الأبواب، وأخذتْ تُغريه بنفسها، فعرضتْ عليه محاسنَها ومفاتنَها، وقالت له: أقْبِل عليَّ فقد هيأتُ لك نفسي، ووالله، إنَّها لفتنةٌ لا يقوى على تحمُّلها وتجاوزها إلا مَن وفَّقه الله - عزَّ وجلَّ - فهو غريب، والغريب لا يحتشِم غالبًا حشمَه إذا كان في وطنه وبيْن معارفه، وهو أيضًا أسير تحتَ يدها، وفيها مِن الجمال ما يدعوه إلى وقاعها، وهو شابٌّ عزبُ، وقد توعدتْه - إن لم يفعل ما تأمره به - بالسجن، أو العذاب الأليم.
ومن السبعة الذين يُظلُّهم الله في ظلِّ عرْشه يومَ لا ظلَّ إلا ظلُّه: ((رجلٌ دعتْه امرأة ذاتُ منصِب وجمال، فقال: إني أخاف الله))، فيوسف - عليه السلام - نفَرَ منها نفرةَ المستنكِر لهذا الأمر، فصبر عن معصية الله، مع وجود الدواعي القويَّة.
والذي حَصَل منه مجرَّد همٍّ فيها، تَرَكه لله، وقدَّم مرادَ الله على مراد النَّفْس الأمَّارة بالسُّوء، وإنما الهمُّ الذي يُلام عليه العبد، الهمُّ الذي يساكنه، ويصير عزْمًا، وربَّما اقترن به الفِعْل، وقد رأى يوسفُ مِن برهان ربه ما أوجب له البُعدَ والانكفاف عن هذه المعصية الكبيرة، وذلك بما معه مِنَ العلم والإيمان..
﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾
فهو من المخلَصين؛ لأنَّه من الأنبياء، ومن المخلِصِين لأنَّه يُريد العفافَ، وترْك الحرام، والإخلاصُ سببٌ للخلاص، لقد أسْرع يوسف - عليه السلام - إلى الباب يُريد الإفلاتَ منها، وأسرعتْ وراءَه؛ لتحولَ دون خروجه، وجذبتْ قميصَه من الخَلْف؛ لتمنعَه من الخروج، فتمزَّق، لكنَّه تمكَّن من الخروج، وفي هذه الحال وجَدَا عند الباب زوجَهَا، فبادرتْه باتهام يوسف بمحاولة اغتصابها، وحرضتْه على سجْنِه، لكن يوسف - عليه السلام - دَفَع التهمةَ عن نفسه بأنَّها هي التي حاولتْ أن تخون زوجَهَا، وأنَّه امتنع عن الاستجابة لها، وبينما هما يتبادلانِ الاتهامَ حضَرَ الجدالَ قريبٌ لها، فحكم بينهما: إن كان قميصُه شُقَّ من الأمام فقد صَدَقَتْ؛ لأنه يكون لما دعاها وأبتْ عليه، دفعتْه في صدره، فقدَّتْ قميصه، وإن كان قميصه شُقَّ من الخَلْف، فقد كذَبَتْ في قولها، وهو من الصادقين؛ لأنَّ هذا يعني أنَّه كان يحاول الفرار، فأمسكتْ به من ورائِه؛ لتردَّه إليها.
فلمَّا رأى الزَّوجُ أنَّ قميص يوسف شُقَّ من الخلْف، عَلِم صِدق يوسف - عليه السلام - وتبيَّن له كيْدُ زوجته، لكنَّه رغب في ستْر الفضيحة، فقال ليوسف: تناسَ ما جَرَى لك واكتمْه، وقال لامرأته: استغفري الله لذنبك وتُوبي، إنَّك كنتِ من الآثمين.
﴿ وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ﴾...
انتشر خبرُ الحادثة التي وقعتْ في بيت الملِك إلى جماعةٍ مِن نساء المدينة، وتناقلْنَه في مجتمعاتهنَّ، أنَّ امرأةَ العزيز أغرَتْ خادمَها، وراودتْه عن نفسِه؛ ليطيعَها فيما تريده منه، وقد خالَطَ حبُّه شغافَ قلْبها، وصل هذا إلى سمْع امرأةِ العزيز، فقرَّرت أن تُريهنَّ يوسفَ - عليه السلام - ليلتمسْنَ لها العذر، فاستضافتهنَّ يومًا، وبعد أن استقرَّ المقام بالمدعوات أمرتْ بالطعام، وأعطتْ كلَّ واحدة سِكِّينًا؛ لتقطعَ بها، وفي هذه الأثناء أمَرتْ يوسفَ أن يخرج إليهنَّ، فانبهرْنَ بجماله الرائع، فجرحن أيديهنَّ من فرط الدَّهْشة والذهول.
ولِمَّا رأتِ امرأة العزيز أنَّ النساء شاركْنَها في الإعجاب به، حينئذٍ باحَتْ لهنَّ بمكنون فؤادها قائلةً: هذا هو الفتى الذي تَلُمْنَني في حبِّه، هذا الذي حاولتُ إغراءَه فامتنع، وأُقسِم إن لم يفعلْ ما آمرُه، ليُعاقبنَّ بالسجن، وليكون من الأذلاَّء.
لكن يوسف - عليه السلام - لم يَلِنْ، ولجأ إلى ربِّه مناجيًا، بأنَّه يُفضِّل السجن على معصيته، ثم دعا ربَّه أنْ يصرفَ عنه شرَّ مكرهنَّ، فاستجاب الله دعاءَه، فصرف عنه المعصية، إنَّه - سبحانه - السميع لدعوات الملتجئين.
قال - تعالى -: ﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ ﴾ ..
واندفع النسوة كلهم إليه يراودنه عن نفسه.. كل منهن أرادته لنفسها.. ويدلنا على ذلك أمران. الدليل الأول هو قول يوسف عليه السلام (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) فلم يقل (ما تدعوني إليه).. والأمر الآخر هو سؤال الملك لهم فيما بعد (قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ).
أمام هذه الدعوات استنجد يوسف بربه ليصرف عنه محاولاتهن لإيقاعه في حبائلهن، خيفة أن يضعف في لحظة أمام الإغراء الدائم، فيقع فيما يخشاه على نفسه. دعى يوسف الله دعاء الإنسان العارف ببشريته، الذي لا يغتر بعصمته؛ فيريد مزيدا من عناية الله وحياطته، ويعاونه على ما يعترضه من فتة وكيد وإغراء. (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ) واستجاب له الله.. وصرف عنه كيد النسوة..
ربما كان دخوله للسجن بسبب انتشار قصته مع امرأة العزيز ونساء طبقتها، فلم يجد أصحاب هذه البيوت طريقة لإسكات هذه الألسنة سوى سجن هذا الفتى الذي دلت كل الآيات على برائته، لتنسى القصة. قال تعالى: (ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ )
كان السجن بالنسبة إليه مكانا هادئا يخلو فيه ويفكر في ربه.
وللحديث بقية...